أن تقف على ناصية الحلم وتقاتل، وأن تشتعل شمعة في الظلام حتى تنير الدرب لغيرك، ليس أمرًا متاحًا للجميع وإنما لأولئك الذين صمموا على أن يصنعوا بأياديهم أحلامهم، ولم تثنهم عن ذلك صفعات الحياة وتقلباتها. وقد تلعب الصدفة دورها في أن تعترضك قصة كفاح حية إذا ما وضعت الحاجّة عواطف المرزوقي "عميدة سائقات الأجرة" في طريقك.
هي في العقد السادس من عمرها، خطت ضروب الزمن على وجهها معابر وطرقات كتلك التي تسلكها بشكل يومي. قصة كفاح حية ومستمرة لامرأة دخلت مجال الرجال، وقد اعتزلتهم بعد وفاة زوجها، لتعيل أطفالها الخمسة وتقيَهم العوز والحاجة والصدقات.
توفي زوج الحاجة عواطف، ولم تتجاوز آنذاك سن الثالثة والثلاثين تاركًا لها من الأطفال خمسًا، ولا مسكن ولا مال يعيلها وإياهم. وطوت معه صفحة "الرجال" رغم صغر سنها وجمالها آنذاك ولم يشغلها إلا أن لا تضطر يومًا لقبول صدقة أو مساعدة من غريب أو قريب.
تقول الحاجة عواطف في حديثها لـ"الترا تونس"، "حين توفي زوجي منذ ما يفوق العشرين سنة، تاركًا لي خمسة أطفال وحاصرني الفقر والعوز، لم يكن هناك وقت للحزن والحداد آنذاك إذا ما وجدت نفسك وحيدة وسط خمسة أفواه لتطعميها، لم يكن لي مؤهلات لطلب وظيفة عمومية، فكرت وسط دائرة المتاح في ذلك الوقت وقد تمكنت من الحصول على رخصة سياقة وجاهدت لنيل رخصة سياقة التاكسي وانطلقت في العمل رغم كل ذلك الضجيج حولي من سخرية وتخويف وترهيب".
لم تكن البداية سهلة ويسيرة، رغم أن العائلة المقربة ساندتها وكانت في صفها بفخر كبير، أما المحيطون بها فلم ترقهم الفكرة. واجهها سيل من السخرية من دخول امرأة لمجال لا يعمل فيه إلا الرجال عادة، أو تخويف من مخاطر الطريق وتحرش الراكبين بامرأة ناضجة الجمال وأرملة أو من محاولات السرقة والاعتداءات. ولم تجابههم إلا بأذن صماء وخاطر لا يفكر إلا في قوت الأطفال بعزة نفس وكرامة.
"الخيارات كانت ضيقة" والبداية تطلبت كثيرًا من الشجاعة والإصرار سيما وأنه لم يكن هناك إلا ثلاث نساء سبقنها في هذا المجال وقد تقاعدن منذ سنوات، لتصبح عواطف عميدة سائقات التاكسي وأقدمهن حاليًا، وفقها. وحين تنظر عواطف لما أنجزته تقف مدهوشة أمام مسيرة عشرين سنة من سياقة سيارات الأجرة كمستأجرة بادئ الأمر ثم صاحبة رخصة وسيارة مكنتها من تربية أبنائها وإدخالهم جميعًا إلى جامعات محترمة.
وتضيف محدثتنا "تحملت مشاقًا جمّة، أصبت بأمراض مزمنة بعد هذه المسيرة، اشتغلت في البداية كمستأجرة لدى صاحب سيارة وكنت أفرح إذا ما ضاعف حصة عملي على عكس بقية المستأجرين، لم أفكر في انعكاسات ذلك الصحية آنذاك وإنما كانت الحصة المضاعفة تعني مدخولًا مضاعفًا لذلك اليوم، كنزة أو بنطالًا جديدًا لأحد أطفالي".
تتعدد مزايا العمل على سيارة الأجرة، فالحصص بست ساعات متتالية، ما يتيح لها الاعتناء بالأطفال وتدريسهم ومراقبتهم بقية اليوم. وتفخر عواطف بأنها لم تهمل أبناءها أو تتركهم ليربيهم الأقارب بل سعت، رغم الكلفة النفسية والصحية الباهظة، إلى أن تكون بقربهم دائمًا وأن لا تجعلهم عبئًا على الجدة أو أي كان.
الفيديو :