اختيرت السيّدة سامية ملّوش (58 سنة) أمّاً مثالية في تونس لعام 2023، وحملها اللقب إلى المهرجان العربي للأمّ المثالية في مدينة الأقصر المصرية حيث كُرّمت.
الأمّ التونسية حوّلت قصة ابنها الكفيف إلى قصّة نجاح، تقول إنّها تأمل أن تكون ملهمة لكلّ أمّ وجدت نفسها في وضعيّة مشابهة.
قبل نحو 20 عاماً استقبلت ملوش وزوجها طفلهما الثالث بفرحة كبيرة نغّصها الخبر الذي أعلنه الأطبّاء حينها: “الرضيع لا يرى”.
اختار الأبوان لابنهما اسم لؤي، ولأن الأب كان طبيباً فقد سارع لعرضه على أمهر الأطباء أملاً في إعادة البصر إليه، ولو جزئياً.
خضع لؤي عندما كان عمره 3 أيام فقط لعمليّة جراحية في العين ، لكن الأطبّاء أبلغوه الوالدين أنها لم تنجح، وأن لا أمل في إبصاره.
لم يفقد الأب الأمل وقرّر أن يعرض طفله على أطبّاء في فرنسا، وهناك كان التشخيص نفسه: “مرض لؤي لا يمكن مداواته ولا أمل في أن يرى النور ذات يوم”. تقول الأمّ: “تقبلنا الأمر وقررنا أن نتصالح مع وضعنا الجديد”.
اتّصل الأبوان عندما كانا في فرنسا، بناءً على نصيحة الأطباء، بجمعيات تعنى بالمكفوفين، وهناك تعرّفا إلى خصائص هذه الفئة من ذوي الحاجات الخصوصيّة وكيفية التعامل معها، “كانت النصيحة الذهبية التي قدموها لي يومها أن أعامل طفلي كطفل عادي لا يشكو من أيّ إعاقة”، تقول الوالدة، أستاذة العلوم الطبيعية في قفصة .
طفولة عاديّة :
عاد الأبوان إلى تونس “راضيين بما قسم الله” لهما، وعاش لؤي طفولة عادية كتلك التي عاشها شقيقاه اللذان يكبرانه سناً، “لم يلق منا أيّ معاملة خاصة، لم يكن طفلاً مدللاً، هكذا قرّرنا أن نربيه” .
كانت السيدة ملوش ترفض أن يعامل أحدهم طفلها معاملة مختلفة شفقة عليه، وتقول: “كنت أرفض نظرات الشفقة التي قد يرمقه بها أحدهم وأنتفض في وجه من يلمّح إلى أنّه طفل مسكين، تركته يسقط ويعتمد على نفسه للنهوض، لم أكن أركض لمساعدته، أردته أن يتعود على السقوط والنهوض بمفرده، وأن يتصالح مع نفسه ولا يشعر بأنه مختلف”.
كان لؤي يتمتّع بروح مرحة جعلت الجميع يحبه، وبذكاء خارق وقدرة كبيرة على الحفظ عملت الأمّ على استغلالهما لتنمية حاستي السمع واللمس تعويضاً لحاسة البصر .
سهرت الأم على تدريس ابنها منذ كان طفلاً صغيراً، وفاجأها بقدرته على الحفظ بسرعة.
في مرحلة لاحقة وبتشجيع من صديقة لها ألحقت الطفل بحضانة للأطفال، حيث بدأ يتعلم القراءة وأذهل كل من تعامل معه حينها من الكادر التدريسي بقدرته الكبيرة على الحفظ والتأقلم مع محيطه، واستطاع أن يجد مكاناً لنفسه داخل الحاضنة حيث أحبّه الجميع.
كان تدريس لؤي أولى العقبات الحقيقية التي اعترضت عائلته، “عندما بلغ سنّ الدراسة بدأنا نفكّر في ما يجب علينا أن نفعله حتّى نمنحه الفرصة للتعلّم كأيّ طفل في سنّه”، خصوصاً أنه ليس في قفصة مدارس خاصة بالمكفوفين. تقول الوالدة: “نصحوني بأن أسجله في مدرسة المكفوفين في العاصمة تونس أو في قابس “.
رفضت الأم هذا المقترح وأصرّت على أن يبقى ابنها إلى جانبها، فلم يكن من السهل عليها أن تتركه يذهب للعيش بعيداً منها وهو في مثل تلك الحالة كما تؤكد، أنها قررت أن تأخذ بزمام الأمور وأن تجد حلاً يكفل حقّ ابنها في التعلم من دون أن تُجبر على فراقه.
بمساعدة بعض المتطوعين استطاع لؤي أن يتعلم الكتابة بطريقة براي، وصارت له القدرة على القراءة والكتابة، ما جعل والدته تنجح في إقناع المسؤولين بتسجيله في مدرسة حكومية يؤمها أطفال مبصرون.
“براي” للمدرّسين :
نجح لؤي في إثبات جدارته بالالتحاق بهذه المدرسة، وكانت المشكلة الوحيدة حينها هي قدرة المدرّسين على فهم ما يكتبه، حينها قررت والدته أن تعلمهم الكتابة والقراءة بلغة “براي”، تقول: “وجدت تجاوباً كبيراً من المدرّسين الذين رحّبوا بالفكرة وتعاونوا معي من أجل تمكين ابني من حقه في التعلم”.
عاش لؤي سنوات دراسته الابتدائية كأي طفل عادي، وكان في كل سنة يحصل على علامات ممتازة، ونجح بامتياز في الاختبار الوطني للسنة السادسة الابتدائية “السيزيام”، ما منحه الحق في الالتحاق بالمعهد الإعدادي النموذجي.
لا تخفي الوالدة أن ابنها واجه مواقف صعبة، وتتذكر على سبيل المثال كيف أن إحدى المدرّسات تذمّرت من الصوت الذي كان يحدثه عند الطباعة على آلته، لكنها تؤكد أنّ ذلك كان حافزاً له للاستمرار في رحلة تحصيل العلم والتفوق.
لم يكن من السهل في المرحلة الثانوية إقناع الأساتذة بالتأقلم مع وضع الطالب الكفيف الذي كان في حاجة لعناية خاصّة واهتمام أكبر، ولأن القانون التونسي يسمح للأطفال ذوي الحاجات الخصوصية بأن يحصلوا على مرافق لهم في المدرسة يحضر معهم الدرس
لمساعدتهم، قرّرت الأم أن توظف من يقوم بهذه المهمة، وتقول إنّها حرصت على تعليم الفتاة التي اختارتها لمرافقة ابنها طيلة مرحلة دراسته الثانوية حتى تكون قادرة على كتابة نصوصه واختباراته عند إملائها عليها.
المزيد من التّفوق :
بكثير من الاجتهاد والمثابرة واصل لؤي تعليمه واستطاع أيضاً في مرحلة تالية أن يجتاز اختبار الالتحاق بالمعاهد النموذجية، وكان من بين الطلبة المتفوقين .
قبل عامين تقدم لؤي الذي كانت له قدرة كبيرة على تعلّم اللغات وإجادتها لاجتياز اختبار البرنامج الأميركي “YES PROGRAM” ، واختير من بين آلاف المرشحين من مختلف ولايات تونس للانتقال إلى الولايات المتحدة، حيث عاش بمفرده لمدة عام كامل وتعلم الاعتماد على نفسه في غياب العائلة.
أتمّ الشاب التونسي سنته الأميركية وقفل عائداً إلى بلاده ليجتاز اختبار الالتحاق بالمدرسة الكندية الفرنسية بامتياز، وهو اليوم تلميذ في مستوى الثانوية ، اختصاص آداب.
تقول ملوش إنها تشعر بكثير من الفخر لأن ابنها استطاع أن يصل إلى هذه المرحلة، وأن يكون دائماً من المتفوقين. وتأمل ” أن تكوّن مستقبلاً جمعيّة تقدم المساعدة لمن هم في مثل وضع ابنها، مضيفة: “أريد أن آخذ بيد كل سيّدة قد تمرّ بالتجربة نفسها التي عشتها”.
وتشدّد على أن ابنها كان “هديّة من الله”، وأنه منح حياتها الكثير من السعادة والفرح، وتشعر اليوم بفخر كبير وهي تراه يشقّ حياته بنجاح معتمداً على نفسه، سائراً على درب شقيقيه اللذين درسا الطبّ وكانا أيضاً من المتميزين.
الفيديو :